الثلاثاء، 2 أبريل 2013

فأصدق وأكن من الصالحين


 قول الله تعالى  " وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ " سورة المنافقون الآية 10.  
يتضمن وجهاً من وجوه الإعجاز ... وقد اعتبر خصوم القرآن الكريم أن في هذه الآية خطأً لفرط جهلهم بلغة العرب ... وسأثبت في هذه الدراسة إن شاء الله تعالى أن ما أخذه الخصوم هو عين الفصاحة وموطن الإعجاز في الآية الكريمة.

وقد قرأ أبو عمرو من القراء السبعة " وأكونَ " نصباً ، وقرأ الباقون " وأَكُنْ " جزماً ([1]).

وهذا الفعل على كلتا القراءتين معطوف على " فأصدقَ " وهو – أعني أصدقَ – منصوب بعد الفاء في أحد الأجوبة التسعة التي نص عليها النحاة ، وهي الأمر والنهي والدعاء والاستفهام والتحضيض والعرض والتمني والنفي والترجي  فهذه تسعة أجوبة ([2]).

والفعل " أصدقَ " في الآية الكريمة واقع بعد " لولا " التي تدل على التحضيض ([3]).
 يقول أبو حيان : " لَوْلا أَخَّرْتَنِى : أي هلا أخرت موتي إلى زمان قليل ؟ ... وهو منصوب على جواب الرغبة "([4])

وهذا يعني أن التحضيض هنا يحمل معنى الرغبة والتمني ؛ ولذا فإن بعضهم نص على أن " لولا " في الآية الكريمة معناها التمني ([5]) .
وذهب ابن هشام إلى أن " لولا " في الآية معناها العرض ، وفرق بينه وبين التحضيض بقوله : " .... والفرق بينهما أن التحضيض طلبٌ بحثٍ وإزعاج ، والعرض طلب بلينٍ وتأدب "([6])
وذهب الهروي أن " لولا " تكون للاستفهام وجعل منه هذه الآية ، يقول : ".... تكون استفهاماً بمعنى " هلا " كقولك : لولا سألتنا ، لولا أتيتنا .  
وذكر النحاس أنه استفهام فيه معنى التمني ([7])  ، ويدل عليه أيضاً كلام سيبويه لأنه ذكر الآية في باب الحروف التي تنزل بمنزلة الأمر والنهي لأن فيها معنى الأمر والنهي ([8]) .
وتمني الرجعة من هذا الذي أشرف على الموت أمر لا مرية في أنه مقصود الآية ([9]) سواء دُلَّ على ذلك بالتحضيض – أو بالعرض كما يقول ابن هشام – أو بالاستفهام المتضمن معنى التمني .
والحاصل أن " لولا " في الآية أحد الأشياء التي ينصب الفعل المضارع في جوابها اتفاقاً .
أما " أكن " فعلى قراءة أبي عمرو " أكونَ " نصباً فلا إشكال في عطفها على " أصدقَ " ؛ والإشكال إنما هو في قراءة الجمهور " أكنْ " جزماً والتي أصلها " أكونْ حذفت الواو من وسطها لالتقاء الساكنين ، وللنحويين في تخريجها مذهبان :

                   المذهب الأول : أنها مجزومة عطفاً على محل " فأصدقَ " لأن محلها الجزم لأنَّ التقدير : إنْ أخَّرتني أصَّدَّقْ وأكن ، ذهب إلى ذلك كثير من النحاة والمعربين ([10]) .
يقول الأخفش : " فقوله " فَأَصَّدَّقَ " جواب للاستفهام ، لأنَّ " لَوْلا " ههنا بمنزلة "هلا" وعطف " وَأَكُن " على موضع " فَأَصَّدَّقَ " لأنَّ جواب الاستفهام إذا لم يكن فيه فاء جزم "([11]

ويقول أبو علي الفارسي " ... فمن جزم حمله على موضع " أصدق " ... لأنه لو لم تدخل الفاء لكان : لولا أخرتني أصدقْ . فإذا كان كذلك علمت أن الفاء مع الفعل المنصوب الذي بعد الفاء في موضع جزم ، فإذا حصل في موضع الجزم جاز أن تعطف الفعل الذي بعده على هذا الموضع "([12])

ويقول الزمخشري : " وقرئ : ( وأكن ) ، عطفاً على محل " فَأَصَّدَّقَ " كأنه قيل : إن أخرتني أصدّقْ وأكنْ "([13])

ومما احتج به لهذا المذهب قول الشاعر :
فَأَبْلوني بَلِيَّتَكمْ لعلِّي ** أُصالِحُكم وأسْتدرِجْ نَوَيَّا([14])

فجزم " أستدرجْ " بالعطف على موضع " لعلي أصالحُكُم " لأنه لو حذف " لعلي " انجزم " أصالحكم " جواباً للأمر ، فيكون تقدير الكلام : فأبلوني بليتكم أصالحْكم وأستدرجْ ([15]).
وقول الآخر :  
أنَّى سَلَكْتَ فإنَّنِي لَكَ كَاشِحٌ ** وعَلى انتقِاصِكَ في الحياةِ وأزْدَدِ([16])
فجزم قوله ( وأزدَد ) عطفاً على موضع الفاء التي في ( فإنني ) ، كأنه قال : أيّاً تَفْعلْ أُبْغضْكَ وأَزَددْ .

وفي العطف على المحل يقول سيبويه : " هذا باب ما يُجَرى على الموضع لا على الاسم الذي قبله : وذلك قولك ليس زيدٌ بجبَانٍ ولا بَخيلاً وما زيد بأخيك

ولا صاحبَك "([17])
ويقول ابن السراج : " باب العطف على الموضع ...  تقول : إن هذا أخوكَ فموضع " هذَا " نصب لأنك لو جعلت موضع "هذا" اسماً معرباً قلت : إن زيداً أخوكَ ، فمن أجل هذا جاز أن تقول : إن هذا وزيداً قائمان . ولهذا جاز أن تقول : يا زيدُ العاقلَ . فتنصب على الموضع "([18])
ومن شواهد العطف على الموضع قول الشاعر :

فإنْ لَمْ تَجِدْ مِن دونِ عَدْنانَ والِداً ** ودونَ مَعدٍ فَلْتَزَعْكَ العَوَاذِلُ([19])   

فعطف " دونَ " الثانية على موضع "من دونِ" الأولى ، وذلك لأن معنى : دون – ومن دون ، واحد ([20]) . يقول ابن هشام : " ولا تختص مراعاة الموضع بأن يكون العامل في اللفظ زائداً كما مثلنا بدليل قوله ... "([21]) وأنشد البيت .
  وقول الآخر
لا نَسَبَ اليومَ ولا خُلّةً ** اتَّسَعَ الخَرْقُ على الراقِع([22])
فعطف " خلةً " على موضع اسم " لا " الأولى " نسبَ " ؛ ولو عطفها على اللفظ لقال : خلةَ ، بالبناء على الفتح .

المذهب الثاني : ذهب الخليل وسيبويه إلى أن " أكنْ " في الآية الكريمة مجزوم على توهم الشرط .
يقول سيبويه : " وسألت الخليل عن قوله عز وجل  ﭽ ﯢ  ﯣ  ﯤ  ﯥ  فقال هذا كقول زهير :
بَدا ليَ أنّي لستُ مُدْرِكَ ما مَضى ** ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائيا([23])

فإنما جروا هذا لأن الأول قد يدخله الباء فجاءوا بالثاني وكأنهم قد أثبتوا في الأول الباء ، فكذلك هذا لما كان الفعل الذي قبله قد يكون جزماً ولا فاء فيه تكلموا بالثاني وكأنهم قد جزموا قبله فعلى هذا توهموا هذا "([24])
والبيت الذي ذكره سيبويه عكس الآية الكريمة ؛ لأنه في الآية جُزِمَ على توهُّمِ سقوط الفاء ، وهنا خُفِضَ على تَوَهُّمِ وجودِ الباءِ ، ولكنَّ الجامعَ توهُّمُ ما يَقْتضي جواز ذلك .

ويعلق أبو علي الفارسي على تنظير سيبويه الآية الكريمة بالبيت المذكور بقوله : " يريد : ومثله في الموضع لا في الجودة ، وتقدير الآية : لولا أخرتني إلى أجل قريب أصدقْ . فـ " لولا " حرف فيه معنى التحضيض ، فلذلك وجب أن يكون الفعل بعده منجزماً كما انجزم بعد الأمر "([25]
يعني أن الباء المتوهم دخولها في البيت في خبر " ليس " زائدة ، أما الموضع المتوهم في الآية الكريمة فهو أصيل بعد التحضيض – أي على توهم سقوط الفاء.

يقول ابن عطية : " وقرأ جمهور السبعة والناس ( وأكن ) بالجزم عطفا على الموضع لأن التقدير : إن تؤخرني أصدقْ وأكنْ ... فأما ما حكاه سيبويه عن الخليل فهو غير هذا وهو جزم " أكن " على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني ، ولا موضع هنا لأن الشرط ليس بظاهر وإنما يعطف على الوضع حيث يظهر الشرط كقوله تعالى " من يضلل الله فلا هادي له " الأعراف 186 ونذرهم فمن قرأ بالجزم عطف على موضع " فلا هادي له " الأعراف 186 لأنه وقع هنالك فعل كان مجزوما "([26])

ومما استُشهد به لهذا المذهب أيضاً قول الشاعر :

فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ من بَين مُنْضِجٍ ** صَفِيفَ شِوَاءٍ أو قَدِيرٍ مُعَجَّلِ([27])

فتوهم الشاعر إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله كأنه قال : منضجِ صفيفِ شواءٍ . فعطف عليه " قديرٍ " بالجر .
يقول الفراء : " وتقول: أنت آخذٌ حقَّك وحَقِّ غيرِك ، فتضيف فى الثانى وقد نوَّنت فى الأوّل لأن المعنى فى قولك : أنت ضاربٌ زيداً وضاربُ زيدٍ ، سواء . وأحسن ذلك أن تحول بينهما بشىء كما قال امرؤ القيس:
فظلّ طُهاة اللحم من بينِ مُنْضِج * صفيفَ شِواءٍ أو قَدِيرٍ معجَّلِ
فنصب الصفيف وخفض القَدِير على ما قلت لك "([28])

إذاً فالخليل وسيبويه يُنَظِّرون جزم " أكنْ " بهذه الشواهد ، ويعتبرونها من العطف على التوهم .
 ويذكر أبو حيان الفرق بين العطف على المحل والعطف على التوهم بقوله : " والفرق بين العطف على الموضع والعطف على التوهم : أن العامل في العطف على الموضع موجود دون مؤثره ، والعامل في العطف على التوهم مفقود وأثره موجود "([29])
وتوضيح ذلك أن نحو : هذا ضاربُ زيدٍ وعمراً . فهذا من العطفِ على الموضع ، فالعاملُ وهو "ضارب" موجودٌ ، وأثرُه وهو النصبُ مفقودٌ . أما نحو : ليس زيد قائماً ولا قاعدٍ – فعطف " قاعدٍ " على " قائماً " على توهم دخول الباء في خبر " ليس " فإنَّ الباء مفقودة وأثرها موجود ، ولكن أثرَها إنما ظهر في المعطوفِ لا في المعطوفِ عليه .([30]

وقد ذكر ابن هشام العطف على التوهم فقال : " والثالث([31]) العطف على التوهم ، نحو : ليس زيد قائماً ولا قاعدٍ ، بالخفض على توهم دخول الباء في الخبر . وشرط جوازه : صحة دخول ذلك العامل المتوهم . وشرط حسنه : كثرة دخوله هناك "([32])


وقد ذكر الشهاب أن القائلين بأنه عطف على المحل إنما كرهوا إطلاق عبارة الوهم على شئ من القرآن الكريم ، وذكر أن الخلاف بين المذهبين لفظي ، يقول : " ... لكن عبارة التوهم غير مناسبة لقبيح لفظها هنا ... والظاهر أن الخلاف فيه لفظي فمراد أبي علي العطف على الموضع المتوهم أو المقدر ، إذ لا موضع هنا في التحقيق ، لكنه فر من إيهام العبارة "([33])

من أجل الفرار من عبارة التوهم يسميه بعضهم : العطف على المعنى ([34]) ، ولعل هذه التسمية هي الأوفق بمثل العطف في الآية الكريمة ، من قبيل أن العطف فيها ليس على توهم شئ على سبيل الخطأ وهو غير مقصود – كما توهمه عبارة التوهم – وإنما يكون الجزم في " أكن " لقصد ملاحظة معنى الشرط كما سيأتي .  

والحاصل أن مقصود مذهب الخليل وسيبويه ، ومذهب الأخفش وأبي علي ومن تبعهما واحد ، وهو أن قراءة الجمهور " وأكنْ " جزماً إنما قصد بها ملاحظة معنى الشرط .


بيان الفرق بين النصب والجزم
                                                     
 يوضح الرضي معنى نصب المضارع بعد الفاء في هذه الأجوبة وعدم رفعه فيقول : " وإنما صرفوا ما بعد فاء السببية من الرفع إلى النصب لأنهم قصدوا التنصيص على كونها سببية ، والمضارع المرتفع بلا قرينة مخلصة للحال أو الاستقبال ظاهر في معنى الحال كما تقدم في باب المضارع ([35])، فلو أبقوه مرفوعا لسبق إلى الذهن أن الفاء لعطف جملة حالية الفعل على الجملة التي قبل الفاء ، فصرفه إلى النصب منبهٌ في الظاهر على أنه ليس معطوفا ، إذ المضارع المنصوب بـ " أنْ " مفرد ، وقبل الفاء المذكورة جملة ، ومخلص المضارع للاستقبال اللائق بالجزائية ، كما ذكرنا في المنصوب بعد " إذن "([36]) فكان فيه شيئان : دفع جانب كون الفاء للعطف ، وتقوية كونه للجزاء ، فيكون إذن ما بعد الفاء مبتدأ محذوف الخبر وجوبا ..... وإنما شرطوا في نصب ما بعد فاء السببية كون ما قبلها أحد الأشياء المذكورة ، لأنها غير حاصلة المصادر فتكون كالشرط الذي ليس بمتحقق الوقوع ، ويكون ما بعد الفاء كجزائها "([37])

وهذا الذي قاله الرضي من أن هذه الفاء ليست عاطفة ، وأن الغرض منها جعل الكلام كالشرط الذي ليس بمتحقق الوقوع – خلاف ما قاله جمهور النحاة من أن نحو : ما تأتينا فتحدثَنا ، الفاء فيه عطفت مصدراً مقدراً من " أن " المضمرة والفعل على مصدر متوهم ، إذ التقدير : ما يكون منك إتيان فحديث ([38]).

والذي قاله الرضي أولى ، وذلك لأن الفاء تكون حينئذٍ غير مفيدة للسببية ، لأن الفاء التي تعطف مفرداً غير صفة لا تدل على السببية ، يقول الزمخشري : " فإن قلتَ : ما حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات ؟ قلتُ : إما أن تدلّ على ترتب معانيها في الوجود ، كقوله :
يا لَهْفَ زيَّابةَ لِلحارث الـ ** صابحِ فالغانِمِ فالآيبِ([39])

 كأنه قيل : الذي صبح فغنم فآب . وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه ، كقولك : خذ الأفضل فالأكمل ، واعمل الأحسن فالأجمل . وإما على ترتيب موصوفاتها في ذلك ، كقوله : رحم الله المحلقين فالمقصرين ؛ فعلى هذه القوانين الثلاثة ينساق أمر الفاء العاطفة في الصفات "([40]

ويقول المرادي : " لا يخلو المعطوف بالفاء من أن يكون مفرداً أو جملة ، والمفرد : صفة وغير صفة . فالأقسام ثلاثة . فإن عطفت مفرداً غير صفة لم تدل على السببية . نحو : قام زيد فعمرو . وإن عطفت جملة أو صفة ، دلت على السببية غالباً ... "([41])

ينبني على هذا أن الفاء التي ينتصب بعدها المضارع لو كانت عاطفةً مصدراً على مصدر لكانت غير مفيدة للسببية ، لأنها إذاً تكون عاطفة مفرداً غير صفة ؛ فالراجح إذاً ما قاله الرضي من كونها ليست عاطفة ، وأنها أُتي بها لمجرد السببية لجعل الكلام كالشرط الذي ليس بمتحقق الوقوع .

إذن فصرف الفعل المضارع هنا من الرفع إلى النصب فيه تأكيد لمعنى السببية التي تدل عليها الفاء ، فدخول الفاء يدل على أن ما قبلها سبب فيما بعدها ، وأن الأول علة لوجود الآخر . ([42]) 

وهذا يعني أن نصب الفعل المضارع في المواضع المذكورة يلقي الكلام إلى معنى الشرط ، لأن معنى قولك : أكرمْني فأحسنَ إليك : إن تكرمْني أحسنْ إليك
يقول ابن السراج : " ... ولذلكَ سمى النحويون ما عُطفَ بالفاء ونُصِبَ - جواباً : لشبهه بجواب الجزاءِ ... "([43])

أما الجزم فإنما يكون في هذه المواضع إذا سقطت الفاء ، يقول ابن الشجري : " ... ألا ترى أن الفاء إذا حُذفت من هذا النحو انجزم الفعل ، كقولك : زُرْني أكرمْك ...([44])
ويقول الوراق : " واعلم أن جواب الأمر والنهي والنفي والاستفهام والتمني والعرض ، إنما الجزم ، لأن ما تقدمه يتضمن معنى الشرط ، ألا ترى أن قولك : أين بيتك أزرْك ؟ معناه : إن تعلمْني بيتك أزرْك ، وكذلك إذا قلت : ائتني أكرمْك ، وكذلك : لا تأتني أضربك ، معناه : إن تأتني أضربْك ، وليت زيداً عندنا نكرمه ، معناه : لو
كان زيد عندنا أكرمناه "([45])
بل ذكر ابن هشام أن الصواب في ذلك أن الفعل مجزوم في جواب شرط حقيقي ، يقول : " والثامن ([46]) قولهم في نحو : ائتني أكرمْك ، إن الفعل مجزوم في جواب الأمر ، والصحيح أنه جواب لشرط مقدر ، وقد يكون إنما أرادوا تقريب المسافة على المتعلمين "([47])

 إذاً فالنصب بعد الفاء يقرب الكلام من معنى الشرط لإفادتها ترتيب شئ على شئ لأنه سببه ، فدخول الفاء يعني النص على السببية ، لكن الكلام مع الفاء ليس شرطاً محضاً ، ولذلك تقع صدراً للجواب الذي لا يصلح أن يقع شرطا .
أما الجزم فيعني أن الكلام أقرب إلى صريح الشرط ؛ و أسلوب الشرط يعني أنه اشتراط شيء لحصول شيء آخر ، ولذلك يسمى ما بعد أداة الشرط : فعل الشرط ، وما يليه مما يحصل بعد ذلك لو حصل الشرط : جواباً وجزاءً ، فهو الجزاء الذي يحصل بعد تحقق المشروط الذي هو فعل الشرط .

يقول ابن يعيش : " ... ومعنى الشرط : العلامة والأمارة ، فكان وجود الشرط علامة لوجود جوابه ، ومنه أشراط الساعة أي علاماتها قال الله تعالى فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا  ([48]).."([49])
وبناءً على ذلك فإن نصب " وأكون " في قول الله تعالى " لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ "   وهي قراءة أبي عمرو كما سبق – يعني عطف سبب على سبب ، أي : جعْله التصدق - والكون من الصالحين سببين في طلب الرجعة ؛ أما الجزم – على قراءة الجمهور – فيعني أن التصدق سبب في طلب الرجعة ، ثم شرط على نفسه الكون من الصالحين إن رجع إلى الدنيا .

يقول ابن عاشور : " فأما الجمهور فقرؤوه مجزوما بسكون آخره على اعتباره جوابا للطلب مباشرة لعدم وجود فاء السببية فيه ، واعتبار الواو عاطفة جملة على جملة وليست عاطفة مفرداً على مفرد . وذلك لقصد تضمين الكلام معنى الشرط زيادة على معنى التسبب فيغني الجزم عن فعل شرط . فتقديره : إن تؤخرني إلى أجل قريب أكن من الصالحين ، جمعا بين التسبب المفاد بالفاء. والتعليق الشرطي المفاد بجزم الفعل "([50])


تعقيب
بعد هذا العرض لأقوال النحاة في تخريج قراءة الجمهور  " لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ " في جزم " أكن " لا أرى مانعاً من اعتبارها معطوفة على محل " فأصدقَ " ، أو هو عطف على المعنى ، ولا ضير في ذلك فكلا العطفين ثابت في الكلام الفصيح كالشواهد التي ذُكرت لشعراء جاهليين وإسلاميين كزهير بن أبي سلمى وامرئ القيس ، ولبيد بن ربيعة رضي الله عنه ، وغيرهم .

وقراءتا النصب والجزم مستويتان في البلاغة والفصاحة ليس فقط من قبيل أن كلا القراءتين قرآن يستوي في فصاحته وإعجازه ، وإنما من قبيل المعنى المراد ، وذلك لقصد تضمين الكلام معنى الشرط زيادة على معنى التسبب فيغني الجزم عن فعل شرط - كما سبق .
وإذا كان النصب يعني عطف سبب على سبب ، وجعل الأمرين سبباً في طلب الرجعة ، فإن الجزم يعني أن التصدق سبب في طلب الرجعة ، ثم شرط على نفسه الكون من الصالحين إن رجع إلى الدنيا .

ولا شك أن الذين يطلبون الرجعة إلى الدنيا عند الموت ليسوا على نمط واحد ، فغير بعيد أن يتمنى بعضهم عند معاينة الموت الرجعة لأجل أن يتصدق ويكونَ من الصالحين ؛ وأن بعضهم يتمنى الرجعة لأجل التصدق ، ثم يبلغ به تمني ذلك مبلغاً يجعله يشترط على نفسه أن يكون من الصالحين إن رجع إلى الدنيا ؛ والله أعلم .




1)    السبعة في القراءات لابن مجاهد 637 ، والنشر لابن الجزري 2 / 428 ، وإتحاف فضلاء البشر صـ 740 . 
2)    وفي بعضها خلاف ، يراجع الجنى الداني صـ 74 ، وهمع الهوامع 2 / 385 – 391 .  والفعل المضارع بعد " أو والفاء والواو " في هذه المواضع في نحو : اضْرِبْ زيداً فيستقيمَ . منصوب عند البصريين بـ " أنْ " مضمرة ، يراجع الكتاب 3/28 ، والمقتضب 2/27 ، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج 1/114 ، والأصول 2/154 . وذهب الفراء وبعض الكوفيين إلى أنه منصوب على الصرف ؛ والصرف يوضحه الفراء بقوله : " فإن قلتَ : وما الصرف ؟ قلتُ : أن تأتي بالواو معطوفة على كلام في أوله حادثة لا يستقيم  إعادتها على ما عطف عليها ، فإذا كان كذلك فهو الصرف كقول الشاعر :
لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتىَ مثلَهُ  ** عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عظيمُ
  ألا ترى أنه لا يجوز إعادة " لا " في : تأتي مثله ؟ فلذلك سمي صرفاً إذ كان معطوفاً ولم يستقم     أن يعاد فيه الحادث الذي قبله  معاني القرآن للفراء 1/235 - 236.
فالصرف إذن يعني أن الفعل  كان يقتضي إعراباً غير النصب فصرف عنه إلى النصب . ويراجع أيضاً الإغفال لأبي علي الفارسي 2/130 ، والإنصاف – المسألة 75{ 2/ 555- 557} ، وشرح الجمل لابن عصفور 2/143 .
وذهب الكسائي والجرمي ومن وافقهما إلى أن " أو والفاء والواو " هي الناصبة بنفسها دون حاجة إلى إضمار " أن " وقد خرجت هذه الأحرف عن باب العطف . يراجع إعراب القرآن للنحاس 1/214 ، وإصلاح الخلل لابن السيد صـ490 ، وشرح الجمل لابن عصفور 2/143 ، وشرح التسهيل لابن مالك 4/27 وارتشاف الضرب لأبي حيان 4 / 1668 ، وتذكرة النحاة لأبي حيان أيضاً  صـ561 ، وشفاء العليل للسلسيلي 2/928.
3)    معاني القرآن وإعرابه للزجاج 5 / 139 ، وحروف المعاني للزجاجي صـ 4 ، والتعليقة على كتاب سيبويه لأبي علي الفارسي 2 / 208 ، والكشاف 4 / 546 ، وأمالي ابن الشجري 1 / 428 ، وتنقيح الألباب في شرح غوامض الكتاب (شرح كتاب سيبويه لابن خروف) صـ 200 .
4)    البحر المحيط 8 / 169 .
5)    مشكل إعراب القرآن لمكي بن أبي طالب 2 / 737 ، والدر المصون 6 / 323 . 
6)    مغني اللبيب صـ 273 . 
7)    إعراب القرآن للنحاس 4 / 437 ، ويراجع أيضاً الحجة لابن خالويه صـ 347 .   
8)    الكتاب 3 / 100 ، ويراجع أيضاً شرح الكتاب للسيرافي 3 / 308 .    
9)    المحرر الوجيز لابن عطية 5 / 289 .    
10)           معاني القرآن للأخفش 1 /69 ، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج 5 / 139 ، وإعراب القرآن للنحاس 4 / 436 ، والحجة لابن خالويه صـ 346 ، والتعليقة على كتاب سيبويه لأبي علي الفارسي 2 / 208 ، والمسائل العضديات صـ 119 ، والحجة لأبي علي الفارسي أيضاً 4 / 44 ، ومشكل إعراب القرآن 2 / 737 ، والكشاف للزمخشري 4 / 347 ، وأمالي ابن الشجري 1 / 428 .      
11)           معاني القرآن للأخفش 1 /69 .     
12)           المسائل العضديات صـ 119 .
13)           الكشاف 4 / 546 .
14)           البيت من الوافر وهو لأبي دؤاد في المسائل العضديات لأبي علي الفارسي صـ 120 ، والخصائص لابن جني 1 / 176 ، وسر صناعة الإعراب 2 / 701 ، والمحرر الوجيز لابن عطية 2 / 484 ، وشرح شواهد المغني للسيوطي صـ 284 ؛ وهو أيضاً من شواهد إعراب القرآن للنحاس 4 / 437 ، والحجة لابن خالويه صـ 346 ، والحجة لأبي علي الفارسي 4 / 44 ، وأمالي ابن الشجري 1 / 428 ، ومغني اللبيب صـ 406 .
 وأبلوني : أعطوني . والبلية : الناقة تربط عند قبر صاحبها حتى تموت . ونويا : النوى الجهة التي ينويها المسافر ، ونويّا أصلها نواي أبدل الألف ياء وأدغم في ياء المتكلم على لغة هذيل . يراجع ذلك في كتاب اللامات للزجاجي صـ 98 ، وسر صناعة الإعراب 2 / 700 ، والمفصل للزمخشري صـ 139 .
والشاهد واضح في المتن .
15)           أمالي ابن الشجري 1 / 428 .
16)           البيت من الكامل ، قال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري ( ت 328 هـ ) أنشد هشام .. وذكر البيت ، يراجع إيضاح الوقف صـ 672 ؛ وهو أيضاً بلا نسبة في تهذيب اللغة للأزهري 15 / 469 ، والمسائل العضديات لأبي علي الفارسي صـ 120 ، والحجة لأبي علي أيضاً 4 / 44 ، والمحرر الوجيز لابن عطية 2 / 484 ، ولسان العرب ( أيا ) ، والبحر المحيط 4 / 415 ، والدر المصون 3 / 379 ، واللباب في علوم الكتاب 9 / 408 ، والمعجم المفصل في شواهد اللغة العربية 2 / 377 .
وقوله كاشح : الكاشح هو المبغض ، والشاهد واضح في المتن .
17)           الكتاب 1 / 66 .
18)           الأصول 2 / 61 .
19)           البيت من الطويل وهو للبيد بن ربيعة العامري رضي الله عنه في ديوانه صـ 85 ، وهو من شواهد الكتاب 1 / 68 ، والمقتضب 4 / 152 ، وإعراب القرآن للنحاس 4 / 438 ، والمحتسب لابن جني 2 / 42 ، وسر صناعة الإعراب 1 / 131 ، وشرح الكافية للرضي 1 / 345 ، ومغني اللبيب صـ 451 .
 وقوله تزعك أي : تمنعك ، وأراد بالعواذل هنا ما يزعه ويكفه من حوادث الدهر وزواجره . يراجع خزانة الأدب 2 / 223 . والشاهد واضح في المتن  
20)           تحصيل عين الذهب (شرح الشواهد للأعلم) 1 / 35 على هامش الكتاب طبعة بولاق .  
21)           مغني اللبيب صـ 451 .  
22)           البيت من السريع وهو لأنس بن العباس بن مرداس في الكتاب 2 / 285 ، والأصول لابن السراج 1 / 403 ، وشرح الشواهد للعيني 2 / 13 ؛ وهو أيضاً من شواهد إعراب القرآن للنحاس 4 / 438 ، واللمع لابن جني صـ 44 ، المفصل للزمخشري صـ 104 ، وتوضيح المقاصد للمرادي 3 / 1551 ، ومغني اللبيب صـ 228 ، وشرح ابن عقيل على الألفية 2 / 12 ، وشرح الأشموني 2 / 13 ، وهمع الهوامع 3 / 237 .
وقوله ولا خلة : الخلة هي الصداقة .
والشاهد في " ولا خلةً " فقد نصب خلة - على تقدير زيادة " لا " للتأكيد - عطفاً على محل اسم " لا " السابقة .
23)           البيت من الطويل وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه صـ 76 ، وهو من شواهد الأصول لابن السراج 1 / 252 ، والتعليقة لأبي علي الفارسي 2 / 207 ، والخصائص لابن جني 2 / 353 ، والمفصل للزمخشري صـ 337 ، وأسرار العربية للأنباري صـ 148 ، والإنصاف 1 / 191 ، وشرح المفصل لابن يعيش 1 / 364 ، وشرح الكافية للرضي 4 / 125 ، وتوضيح المقاصد للمرادي 2 / 778 ، ومغني اللبيب صـ 286 ، وهمع الهوامع 3 / 230.
 والشاهد في البيت جر "ولا سابقٍ" عطفاً على "مُدْرِكَ" الذي هو خبر ليس على توهُّمِ زيادةِ الباء فيه ؛ لأنه قد كَثُرَ جَرُّ خبرِها بالباء المزيدة . يراجع خزانة الأدب 9 / 105 .
24)           الكتاب 3 / 100 – 101 .
25)           التعليقة على كتاب سيبويه 2 / 208 .
26)           المحرر الوجيز 5 / 316 .
27)           البيت من الطويل وهو لامرئ القيس في ديوانه صـ 62 ، وهو من شواهد معاني القرآن للفراء 1 / 346 ، وتهذيب اللغة للأزهري 6 / 199 ، ومغني اللبيب صـ 439 ، وشرح الأشموني 3 / 158 ، وهمع الهوامع 3 / 299 .
 والطهاة جمع طاهٍ كالقضاة جمع قاضٍ ، والطهي والطهو : الإنضاج ، والصفيف : المصفوف على الحجارة لينضج ، والقدير : اللحم المطبوخ في القدر . يراجع شرح المعلقات العشر للزوزني صـ 53 .
والشاهد في البيت جر " قديرٍ" عطفاً على " صفيف " على توهم إضافته لاسم الفاعل "منضج ".
28)           معاني القرآن للفراء 1 / 346 .   
29)           البحر المحيط 8 / 269 .
30)           الدر المصون 6 / 323 .  
31)           أي من أقسام العطف ؛ والأول هو العطف على اللفظ . والثاني : العطف على المحل . يراجع مغني اللبيب صـ 450 – 453 .
32)           مغني اللبيب صـ 453 .
33)           حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي 8 / 201 .
34)           مغني اللبيب صـ 406 .
35)           شرح الكافية للرضي 4 / 12 حيث رجح الرضي أن الأصل في الفعل المضارع الدلالة على الحال ، فيحمل على الحال عند عدم وجود قرينة تخلصه للاستقبال ، وهذا ما رجحه أبو علي الفارسي في المسائل العسكرية صـ 98 – 102 ، وعبد القاهر الجرجاني في : المقتصد في شرح الإيضاح 1 / 84 ، وبعض النحويين ، واختاره السيوطي يقول : " ... وهو المختار عندي بدليل حمله على الحال عند التجرد من القرائن " همع الهوامع 1 / 37 ، ويراجع أيضاً التذييل والتكميل لأبي حيان 1 / 85  ، وذهب سيبويه وكثير من النحويين إلى أن الفعل المضارع مشترك بين الحال والاستقبال ولا يخلص لأحدهما إلى بقرينة . يراجع الكتاب=    =1 / 12 ، وشرحه للسيرافي 1 / 18 ، والمفصل للزمخشري صـ 321 ، وشرحه للخوارزمي ( التخمير ) 3 / 212 ، وشرح المفصل لابن يعيش 3 / 227 ، وشرح التسهيل لابن مالك 1 / 18  .      
36)           يقول الرضي ثَمَّ : " ... فإنه لما قصد النص على كون الفاء للسببية دون العطف : أُضمر (أن) بعدها لينتفي عن المضارع معنى الحالية المانعة من السببية " 4 / 40 .
37)           شرح الكافية للرضي 4 / 66 – 67 .  
38)           قالوا : ويجوز فيه الرفع والنصب ، فالرفع على معنيين : على الاشتراك كأنك قلت : ما تأتينا فما تحدثنا ، وعلى الابتداء كأنك قلت : ما تأتينا فأنت تجهل أمرنا . و النصب أيضاً على معنيين أحدهما : ما تأتينا فكيف تحدثنا ، أي لو أتيتنا لحدثتنا ، فتريد نفيَهما على سبيلِ الإنكارِ على مُدَّعي الإنكار. والآخر ما تأتينا أبداً إلا لم تحدثنا ، أي منك إتيان كثير ولا حديث منك ، فإنما ينصب الفعل هنا لمخالفة الثاني الأول وأنه لا يمكن عطفه عليه .
 الكتاب 3 / 28 ، والمقتضب 2 / 15 ، والمفصل للزمخشري صـ 325 ، وصـ 329 ، واللباب في علل البناء والإعراب 2 / 43 ، وتوضيح المقاصد للمرادي 3 / 1253 ، وشرح الجمل لابن هشام صـ 275 .
39)           البيت من السريع ، وهو لابن زيابة في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 1 / 109 ، وخزانة الأدب 5 / 107 ، وهو من شواهد شرح الكافية للرضي 2 / 352 ، والبحر المحيط 7 / 349 ، والجنى الداني صـ 65 ، ومغني اللبيب صـ 169 ، وهمع الهوامع 3 / 155 .
قوله يا لَهْفَ زيَّابةَ ، يقال - يا لهف فلان : كلمة يتحسر بها على ما فات . ولهف : منادى مضاف أي : يا لهف احضر . وزيابة بفتح الزاي وتشديد الياء : اسم أم الشاعر . والصابح ، يجوز أن يكون في معنى مصبحٍ ، ويجوز أن يكون الصابح من صبحت القوم ، إذا أتيتهم صباحاً . يراجع شرح المرزوقي وخزانة الأدب في الموضعين المذكورين  .
 والشاهد في البيت هنا أن الفاء لمجرد الترتيب لا تفيد سببية .  
40)           الكشاف للزمخشري 4 / 37.     
41)            الجنى الداني صـ 64 ؛ ويراجع أيضاً مغني اللبيب صـ 169 .    
42)           يراجع شرح المفصل لابن يعيش 3 / 614 .  
43)           الأصول لابن السراج 2 / 183 .     
44)           أمالي ابن الشجري 1 / 428 ؛ والآية الكريمة من الآية 3 من سورة الحجر .      
45)           علل النحو للوراق صـ 441 ، ويراجع في ذلك أيضاً شرح الجمل لابن خروف 2 / 861 حيث يقول" كل جواب يجزم فلتضمن الكلام معنى الشرط ... إلخ "، ويراجع شرح الجمل لابن هشام صـ 291 .    
46)           أي من الأمور التي اشتهرت بين المعربين والصواب خلافها .
47)           مغني اللبيب صـ 618 ، ويراجع أيضاً الإيضاح لأبي علي الفارسي صـ 253 حيث اعتبر ذلك مما حذف فيه الشرط .   
48)           من الآية 18 من سورة محمد – صلى الله عليه وسلم – .
49)           شرح المفصل لابن يعيش 3 / 279 .     
50)           التحرير والتنوير 28 / 227 . 

إعراب " المقيمين " من قول الله تعالى " لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا "

 إعراب " المقيمين " من قول الله تعالى " لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا  " ([1])
&&&


                  وقعت كلمة " المقيمين " في قوله تعالى ﯰ   ﯱ  ﯲ  ﯳ   ﯴ  ﯵ  ﯶ  ﯷ     ﯸ  ﯺ   ﯻ  ﯼ  ﯽ  ﯿ  ﰀ  ﰂ  ﰃ    ﰄ  ﰅ  ﰆ   ﰇ     ﰈ  ﰉ  ﰊ    ﰋ ([2])  منصوبة بين مرفوعات وهي : الراسخون – المؤمنون – المؤتون الزكاة .

  حتى ادُّعِي أنها خطأ في المصحف ، يقول  الزمخشري : " ....  ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف ، وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان ، وغبي عليه أن السابقين الأولين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذب المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم وخرقا يرفوه من يلحق بهم "([3])

ويقول الطبري أيضاً : " ....  مع أن ذلك لو كان خطأ من جهة الخطِّ لم يكن الذين أخذ عنهم القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِّمون من علَّموا ذلك من المسلمين على وجه اللحن ، ولأصلحوه بألسنتهم ، ولقَّنوه الأمة تعليمًا على وجه الصواب ، وفي نقل المسلمين جميعًا ذلك قراءةً ، على ما هو به في الخط مرسومًا ، أدلُّ الدليل على صحة ذلك وصوابه ، وأن لا صنع في ذلك للكاتب "([4])

وسأذكر من مذاهب النحاة وتخريجاتهم لذلك وشواهدهم من كلام العرب  مالا يدع مجالاً للشك في فصاحة هذا الاستعمال اللغوي ‘ وأن له في مثل هذا الموطن من الحسن ما ليس لغيره .        

 أما تخريجات النحاة والمعربين لذلك فقد انقسمت إلى ستة مذاهب :

المذهب الأول :
        ذهب سيبويه – وعُزي إلى البصريين([5]) – إلى   أنها منصوبة على المدح لبيان فضل الصلاة ، أي أمدح المقيمين الصلاة .
وضح سيبويه ذلك وفصل القول فيه في  باب ما ينتصب على التعظيم والمدح ، يقول : "... ومثل ذلك قول الله عز وجل "  ﯰ   ﯱ  ﯲ  ﯳ   ﯴ  ﯵ  ﯶ  ﯷ     ﯸ  ﯹ   ﯺ   ﯻ  ﯼ  ﯽ  ﯿ  ﰀ  ﰂ  ﰃ  فلو كان كله رفعا كان جيدا ، فأما "المؤتون " فمحمول على الابتداء ، وقال جل ثناؤه "  ﭚ   ﭛ  ﭜ  ﭝ  ﭞ  ﭟ  ﭠ  ﭡ  ﭢ   ﭣ  ﭤ  ﭥ  ﭦ  ﭧ  ﭨ  ﭩ  ﭪ   ﭫ  ﭬ  ﭭ  ﭮ  ﭯ  ﭰ  ﭱ     ﭲ  ﭳ  ﭴ  ﭵ  ﭶ  ﭷ  ﭸ   ﭺ  ﭻ  ﭼ  ﭽ  ﭾ  ﭿ([6]) ولو رفع " الصابرين " على أول الكلام كان جيداً ، ولو ابتدأته فرفعته على الابتداء كان جيداً ([7]) ، كما ابتدأت في قوله   " والْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ " ونظير هذا النصب من الشعر قول الخرنق :

لايَبْعَدنْ قومي الذين هُمُ   **  سَمُّ العُداةِ وآفةُ الجُزْرِ
النّازِلينَ  بكلّ   مُعْتَرَكٍ      **     والطَّيِّبون مَعَاقِدَ الأَزْرِ([8])  

 فرفع " الطيبين " كرفع " المؤتون "   ...... ومن هذا الباب في النكرة قول أمية بن أبى عائذ :
ويَأْوِى إلى نِسْوةٍ عُطَّلٍ  ** وشُعْثاً مَراضِيعَ مِثْلَ السَّعالِي([9])    
كأنه حيث قال إلى نسوة عطل صرن عنده ممن علم أنهن شعث ولكنه ذكر ذلك تشنيعا لهن وتشويها ؛ قال الخليل كأنه قال وأذكرهن شعثا إلا أن هذا فعل لا يستعمل إظهاره "([10]

وقد تعرض أبو الحسن الباقولي لذلك في كتابه " جواهر القرآن " ووضحه ، يقول في باب  ما جاء في التنزيل نصباً على المدح ورفعاً عليه : " وذلك إذا جرى صفات شتى على موصوف واحد، يجوز لك قطع بعضها عن بعض، فترفعه على المدح أو تنصبه، وكذلك في الشتم تقول مررت بالرجل الفاضل الأديب الأريب، وبالرجل الفاسق الخبيث اللئيم ، يجوز لك أن تتبعها الأول، وأن تنصب على المدح .....  ومن ذلك قوله تعالى " ﯰ   ﯱ  ﯲ  ﯳ   ﯴ  ﯵ  ﯶ  ﯷ     ﯸ  ﯹ   ﯺ   ﯻ  ﯼ  ﯽﯾ  ﯿ  ﰀأي وأمدح المقيمين ، والمؤتون الزكاة أي : وهم المؤتون ، وكذلك والمؤمنون بالله  "([11])
وإلى هذا أيضاً ذهب الفراء ، يقول : " .... وإنما نصبت لأنها من صفة اسم واحد ، فكأنه ذهب به إلى المدح؛ والعرب تعترض من صفات الواحد إذا تطاولت بالمدح أو الذمّ فيرفعون إذا كان الاسم رفعا، وينصبون بعض المدح فكأنهم ينوون إخراج المنصوب بمدحٍ مجدّدٍ غير مُتْبَع لأوّل الكلام ........ ونُرَى أنّ قوله: "ﯰ   ﯱ  ﯲ  ﯳ   ﯴ  ﯵ  ﯶ  ﯷ     ﯸ  ﯹ   ﯺ   ﯻ  ﯼ  ﯽ  ﯿ  ﰀ  ﰂ  ﰃ   أنّ نصب "المقِيمِين" على أنه نعت للراسِخِين ، فطال نعته ونُصِب على ما فسَّرت لك "([12])
ذهب إلى ذلك أيضاً الزمخشري ، يقول : " المقيمين : نصب على المدح لبيان فضل الصلاة وهو باب واسع ...  "([13])
اعترض الكسائي وغيره([14]) على هذا المذهب بأن النصب على المدح لا يكون إلا بعد تمام الكلام ، يقول الفراء : " وإنما امتنع مِن مذهب المدح - يعني الكسائيّ - الذي فسَّرت لك ، لأنه قال : لا ينصب الممدوح إلا عند تمام الكلام ، ولم يتمم الكلام في سورة النساء. ألا ترى أنك حين قلت " لكن الراسخون في العلم منهم - إلى قوله "والمقيمين - والمؤتون" كأنك منتظر لخبره وخبره فى قوله : " أُولئِك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً " ([15])  

وأجيب عن ذلك بأن الكلام إذا طال حسن فيه القطع ، يقول الفراء : " والكلام أكثره على ما وصف الكسائي ؛ ولكن العرب إذا تطاولت الصفة جعلوا الكلام في الناقص وفي التام كالواحد ... "([16]) .

 وهذا الاعتراض إنما يتأتى على كون خبر " الراسخون " هو قوله       ﰈ  ﰉ  ﰊ    ﰋ لكن الخبر عند  القائلين بالنصب على المدح هو قوله"  ﯶ  ﯷ     ﯸ  ﯹ فيكون الكلام قد تم.
 يقول مكي بن أبي طالب : " ... و من جعل نصب " المقيمين " على المدح جعل خبر الراسخين يؤمنون فإن جعل الخبر " أولئك سنؤتيهم " لم يجز نصب المقيمين على المدح لأن المدح لا يكون إلا بعد تمام الكلام "([17]) .
ويكون قوله ﰈ  ﰉ  ﰊ    ﰋ على ذلك خبراً لقوله ﰄ  ﰅ  ﰆ   ﰇ     أويكون خبراً لـ  ﰂ  ﰃ     ولكن لا يكون "  ﰂ" مرفوعاً على المدح بإضمار مبتدأ كما سبق ([18]).
كما اعترض على هذا المذهب أيضاً بأن وجود حرف العطف يمنع النصب على المدح ، يقول ابن عطية " ...وهذا كقول خرنق بنت هفان :

لايَبْعَدنْ قومى الذين هُمُ   **  سَمُّ العُداةِ وآفةُ الجُزْرِ
النّازِلينَ  بكلّ   مُعْتَرَكٍ      **     والطَّيِّبون مَعَاقِدَ الأَزْرِ([19])

قال القاضي أبو محمد ([20]) : وقد فرق بين الآية والبيت بحرف العطف الذي في الآية فإنه يمنع عند بعضهم تقدير الفعل .... "([21])
وهذا خلاف ما ذكره النحاة فقد ذكروا جواز عطف بعض النعوت على بعض متبعة كانت أو مقطوعة ، وأن الواو في النعت المقطوع اعتراضية . ([22])

يقول الرضي : " والأعرف مجئ نعت النكرة المقطوع بالواو الدالة على القطع والفصل ، إذ ظاهر النكرة محتاج إلى الوصف ، فأكد القطع بحرف هو نص في القطع – أعني الواو – ... ويجوز في المعرفة أيضا القطع مع الواو، كقول الخرنق ... والواو في النعت المقطوع اعتراضية –  نصبته أو رفعته – "([23]

وقد رد السمين الحلبي ما نقله ابن عطية بقوله : "  وحكى ابنُ عطية عن قومٍ مَنْعَ نصبه على القطع من أجلِ حرف العطف ، والقطعُ لا يكونُ في العطف ، إنما ذلك في النعوت ، ولما استدلَّ الناسُ بقوله الخرنق:

لا يَبْعَدَن قومي الذين همُ ** سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجُزْرِ
النازلين بكلِّ معتَركٍ ** والطيبون معاقدَ الأزْرِ

على جواز القطع فَرَّق هذا القائلُ بأن البيت لا عطفَ فيه ؛ لأنها قطعت "النازلين" فنصبته ، و"الطيبون " فرفعَتْه عن قولِها " قومي" وهذا الفرقُ لا أثرَ له ؛ لأنه في غير هذا البيت ثبت القطع مع حرف العطف ، أنشد سيبويه :

ويَأْوي إلى نِسْوةٍ عُطَّلٍ **وشُعْثاً مراضيعَ مثلَ السَّعالِي([24])
فنصب "شعثاً" وهو معطوف "([25])  

استحسن أبوعلي النصب على المدح في مثل هذه المواضع وذكر موطن حسنه قائلاً : " والأحسن عندي في هذه الأوصاف التي تعطف ويذكر الموضع من موصوفها والمدح أو النقص منهم والذم أن يُخالَفَ بإعرابها ، ولا تُجْعَلَ كلها جارية على موصوفها ، ليكون ذلك دلالة على هذا المعنى ، وانفصالاً لما لا يذكر للتنزيه والتنبيه ، أو النقص والغض مما يذكر للتخليص والتمييز بين الموصوفين المشتبهين في الاسم المختلفين في المعنى ؛ وعلى هذا الحد مذهب العرب في هذا النحو ، وكذلك ما أنشده ([26])  من هذه الأبيات في هذه الأبواب أو عامتها .
وفيه شئٌ آخر يُقَوِّي هذا : وهو أن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القول ، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان أشد وأوقع فيما يُعنى ويُفترض لصيرورة الكلام وكونه بذلك ضروباً وجملاً ، وكونه في الإجراء على الأول وجهاً واحداً " ([27])

 المذهب الثاني :
          ذهب الكسائي إلى أن " المقيمين " في الآية الكريمة معطوفة على " ما " في قوله " بما أنزل إليك " يقول الفراء : " ... وقال فيه الكسائيّ "والمقيمين" موضعه خفض يُرَدّ على قوله :  " بِما أنزِل إليك وما أنزِل مِن قبلِكَ " : ويؤمنون بالمقيمين الصلاة هم والمؤتون الزكاة . قال : وهو بمنزلة قوله :    ﯧ  ﯨ  ﯩ  ﯪ ([28])... " ([29])

يذكر مكي بن أبي طالب هذا المذهب ويزيده إيضاحاً فيقول : " ... وقال الكسائي هو في موضع خفض عطف على " ما " في قوله " بما أنزل إليك " وهو بعيد لأنه يصير المعنى يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين الصلاة ؛ وإنما يجوز أن تجعل المقيمين الصلاة هم الملائكة فتخبر عن الراسخين في العلم وعن المؤمنين بما أنزل الله على محمد ويؤمنون بالملائكة الذين من صفتهم إقامة الصلاة لقولهﮰ  ﮱ  ﯓ   ﯔ  ﯕ([30])  

واختاره الطبري ورجحه على ما عاداه قائلاً " ... وأولى الأقوال عندي بالصواب أن يكون" المقيمين " في موضع خفض نسَقًا على"ما" التي في قوله :" بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك " وأن يوجه معنى" المقيمين الصلاة " إلى الملائكة . فيكون تأويل الكلام : " و المؤمنون منهم يؤمنون بما أنزل إليك يا محمد ، من الكتاب ، وبما أنزل من قبلك من كتبي ، وبالملائكة الذين يقيمون الصلاة . ثم يرجع إلى صفة" الراسخين في العلم " فيقول : لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون بالكتب والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر "([31]
وقيل إن المقيمين الصلاة – على هذا الوجه –هم الأنبياء ؛ وقيل هم المسلمون ، ويكون على حذف مضاف أي : وبدين المقيمين . ([32])   

المذهب الثالث :
              ذهب بعض المعربين إلى أن " المقيمين " في الآية الكريمة معطوفة على " قبل " من قوله " وما أنزل من قبلك " ؛ ويكون على حذف مضاف أي : ومن قبل المقيمين ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مُقامه ، يقول النحاس : " أن يكون " و المقيمين " عطفا على " قبلك " ويكون المعنى : ومن قبل المقيمين ، ثم أقام المقيمين مقام قبل "([33]
أجاز أبو البقاء هذا الوجه ، يقول : " ... والثالث : أنه معطوف على " قبل " تقديره ومن قبل المقيمين فحذف " قبل " وأقيم المضاف إليه مقامه ... "([34]

المذهب الرابع :
                  أن يكونَ معطوفاً على الضمير في " منهم " أي: لكن الراسخون في العلمِ منهم ومن المقيمين الصلاة.

المذهب الخامس
          أن يكون معطوفاً على الكاف في " إليك " أي: يؤمنون بما أُنْزل إليك وإلى المقيمين الصلاةَ وهم الأنبياء.  

المذهب السادس :
           أن يكونَ معطوفاً على الكاف في " قبلك " أي : ومِنْ قبلِ المقيمين ، ويعين بهم الأنبياءَ أيضاً . ([35])     
ذكر أبو البقاء العكبري هذه المذاهب الثلاثة الأخيرة وردّها بقوله : " ...  وهذه الأوجه الثلاثة عندنا خطأ لأن فيها عطف الظاهر على المضمر من غير إعادة الجار "([36])      
وأبو البقاء في في ذلك متبع مذهب جمهور البصريين ومن وافقهم في  عدم جواز العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار إلا في ضرورة الشعر .

وذهب يونس والكوفيون والأخفش إلى جواز ذلك في السعة  .
 وذهب المازني إلى أنه إن أكد الضمير جاز العطف من غير إعادة الخافض نحو : " مررت بك نفسِك وزيدٍ" .  ([37])

تناول أبو البقاء هذه المسألة في كتابه " اللباب " وذكر حجة  البصريين  قائلاً : "وحجَّة الأوَّلين من ثلاثة أوجه : أحدُها أنَّ الضمير المجرور مع الجارّ كشيء واحد ولذلك لم يكن إلاَّ متصَّلا ، فالعطف عليه كالعطف على بعض الكلمة . والثاني : أنَّ المعطوف لو كان مضمراً لم يكن بدُّ من إعادة الجرّ فكذلك إذا كان معطوفاً عليه .  والثالث : أنَّ الضمير كالتنوين مع الإضافة وأنَّه على حرف واحد ، كما لا يعطف على التنوين كذلك الضمير "([38]

وذكر أبو البركات الأنباري حجة الكوفيين قائلاً : " أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنه يجوز أنه قد جاء ذلك في التنزيل وكلام العرب قال الله ﭣ  ﭤ  ﭥ  ﭦ   ﭧ    ﭨ[39])  بالخفض وهي قراءة أحد القراء السبعة وهو حمزة الزيات([40])  .......   وقال تعالى ﭳ  ﭴ  ﭵ   ﭶ  ﭷ  ﭸ  ﭹ  ﭺ      ([41])   فمن : في موضع خفض بالعطف على الضمير المفخوض في ( لكم ) فدل على جوازه وقال الشاعر :

فَالْيَومَ قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وتَشْتِمُنَا **  فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ  ([42])   

 فالأيام خفض بالعطف على الكاف في " بك " والتقدير : بك وبالأيام ، وقال الآخر :

أكرُّ على الكتيبة لا أُبالي **  أَحَتْفِي كان فيها أَمْ سِوَاها([43]
 فعطف سواها بـ " أم " على الضمير في " فيها " والتقدير : أم في سواها ... "([44])   

رجح ابن مالك مذهب الكوفيين ، وردّ ما احتج به البصريون بقوله : " ... وفي الحجتين([45]) من الضعف ما لا يخفى ، لأن شبه ضمير الجر بالتنوين لو امنع من العطف عليه بلا إعادة الجار لمنع منه مع الإعادة ، لأن التنوين لا يعطف عليه بوجه ، ولأنه لو منع من العطف عليه لمنع من توكيده والإبدال منه ، لأن التنوين لا يؤكد ولا يبدل منه ، وضمير الجر يؤكد ويبدل منه بإجماع ، فللعطف أسوة بهما . قد تبين ضعف الحجة الأولى . وأما الثانية فيدل على ضعفها أنه لو كان حلول كل واحد من المعطوف والمعطوف عليه شرطاً في صحة العطف لم يجز : ربَّ رجلٍ وأخيه .... وأمثال ذلك كثيرة ، فكما لم يمتنع فيها العطف لا يمتنع في نحو : مررت بك وزيدٍ . وإذا بطل كون ما تعلقوا به مانعاً ، وجب الاعتراف بصحة الجواز "([46])

وقد ذكر أبو حيان ذلك واختار مذهب الكوفيين لأن السماع يؤيده والقياس يقويه ، أما السماع فقد ورد عن العرب نظماً ونثراً نصوص من الكثرة بحيث لايسوغ معها ادعاء الضرورة ، وأما القياس فهو أنه كما يجوز أن يبدل منه ويؤكد  من غير إعادة جار ، كذلك يجوز أن يعطف عليه من غير إعادة جار([47])

تعقيب
      
وبعد ؛ فهذه أقوال النحاة والمعربين في " المقيمين " من قوله تعالىﯰ   ﯱ  ﯲ  ﯳ   ﯴ  ﯵ  ﯶ  ﯷ     ﯸ  ﯹ   ﯺ   ﯻ  ﯼ  ﯽ  ﯿ  ﰀ  ﰂ  ﰃ    ﰄ  ﰅ  ﰆ   ﰇ    ﰈ  ﰉ  ﰊ    ﰋ   والذي أراه راجحاً أن " المقيمين " من جملة صفات ﯱ  - والمعنيُّ بهم فريق من أهل الكتاب – وأن قوله   ﰈ  ﰉ  ﰊ    ﰋ خبر لـ  ﯱ   لأنه بَيَّنَ مصير هذا الفريق من أهل الكتاب في مقابل مصير الفريق الآخر الذي قال فيه في الآية السابقة    ﯪ  ﯫ  ﯬ  ﯭ  ﯮ ([48]

وعليه فلا يكون قوله  ﯿ  معطوفاً على " ما " في     ﯷ     ﯸ  ﯹ فيراد بهم الملائكة أو المسلمون([49])    – كما ذهب إليه الكسائي وأجازه أبو البقاء واختاره الطبري -  .

كذلك يضعف قول من قال إنها معطوفة على " قبل " أو على الضمير في " إليك – أو قبلك – أو منهم  " لا من قبيل امتناع العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار – فالراجح جواز ذلك وعدم امتناعه لوروده في نصوص كثيرة تخرج عن حد الضرورة – كما قال ابن مالك وأبو حيان – ولكن من قبيل ما ذكرتُ من كون الراجح أن المقصود بالمقيمين : مؤمنو أهل الكتاب ، لا الأنبياء أو غيرهم . 

إذاً فالراجح ما ذهب إليه سيبويه وكير من النحاة والمعربين – وعليه الباقولي – من أن  ﯿ من صفات ﯱ    وأنها منصوبة على التعظيم و المدح لبيان فضل الصلاة ، وهو أسلوب عربي فصيح له في اللسان العربي شواهد كثيرة كالتي ذكرها سيبويه وغيره ؛ بل إن له في مثل هذا الموضع ميزة وهو أنه من مواضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القول ، فإذا خُولف بإعراب الأوصاف كان أشد وأوقع فيما يُعنى ويُفترض لصيرورة الكلام وكونه بذلك ضروباً وجملاً ، وكونه في الإجراء على الأول وجهاً واحداً – كما قال أبو علي - .





1)      سورة النساء الآية 162 .   
2)    سورة النساء الآية 162 .     
3)    الكشاف 1 / 623 .  
4)     جامع البيان ( تفسير الطبري ) 9 / 398 ؛ ويراجع  أيضاً معاني القرآن وإعرابه للزجاج 2 / 106 ، والبحر المحيط 3 / 320 .

5)      الكتاب لسيبويه 2 / 66  ، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج 2 / 107 ، وإعراب القرآن للنحاس 1 / 405 ، ومشكل إعراب القرآن لمكي بن أبي طالب 1 / 212 ، والتبيان في إعراب القرآن 1 / 202 .       
6)    من الآية 177 من سورة البقرة  .          
7)       قوله  " ولو رفع الصابرين على أول الكلام " يريد : ولكن البر من آمن بالله والموفون بعهدهم والصابرون ، فيكون معطوفاً على "  مَنْ " وقوله " ولو ابتدأته فرفعته على الابتداء كان جيداً " فيكون خبره " أولئك الذين صدقوا " وأما النصب فهو على المدح بإضمار فعل ، وهو في المعنى  معطوفٌ على "مَنْ آمن"، ولكنْ لَمَّا تكرَّرت الصفاتُ خُولف بين وجوه الإِعرابِ ، وهو أبلغُ لأنَّ الكلامَ يَصِيرُ على جملٍ متعددةٍ ، كما سيأتي – إن شاء الله تعالى – .
  الإغفال لأبي على 2 / 35 ، والدر المصون للسمين الحلبي 1 / 449 .            
8)       البيتان من الكامل وهما  للخرنق بنت هفان في ديوانها صـ 29، وهما من شواهد  معاني القرآن للفراء 1 / 105 ، ومعاني القرآن للأخفش 1 / 167 ، والأصول لابن السراج 2 / 40   ،  والمحتسب لابن جني 2 / 197 ، والإنصاف في مسائل الخلاف المسألة 65 { 2 / 468} ، وشرح الكافية للرضي 2 / 342 ، وشرح الأشموني 3 / 100 ، وهمع الهوامع للسيوطي 3 / 154 .
 قوله : لا يبعدن: دعاء خرج مخرج النهي أي: لا يهلكن ؛ من البعد بمعنى : الذهاب بالموت ، أو الهلاك .   العداة : جمع عاد - بمعنى العدو- أي: أنهم بمنزلة السم للأعداء ، يقتلونهم بلا رحمة . آفة الجزر: الآفة "اسم لكل ما يؤذي ، أو يهلك . والجزر: جمع جزور؛ وهي الإبل ، يريد أنهم كرماء . معترك : موضع الاعتراك والقتال . معاقد : جمع معقد وهو موضع عقد الإزار ؛ والإزار : ما يشده الإنسان على وسطه ، وكنى بذلك عن طهارتهم وعفتهم عن الفحشاء .  شرح الشواهد للعيني 3 / 100 على هامش شرح الأشموني .
وسيبويه يستشهد بالبيتين على نصب "  النازلين " على المدح ، ورفع " الطيبون " على الابتداء .               
9)    البيت من المتقارب وهو من شواهد معاني القرآن للفراء 1 / 108 ، والمفصل للزمخشري صـ 70 ، وشرحه لابن يعيش 1 / 296 ، وشرح الجمل لابن عصفور 1 / 89 ، والمخصص لابن سيده 5 / 89 ، وشرح الكافية للرضي 2 / 342 ، وشرح الأشموني 3 / 101 .
وقوله عُطَّل : يقال عطلت المرأة إذا خلا جيدها من القلائد فهي عُطُل ، والسعالي جمع سعلاة ، وهي أخبث الغيلان.
 وسيبويه يستشهد بالبيت على نصب " شعثاً " على الذم ، فكأنه قال : وأذكرهن شعثاً .   تحصيل عين الذهب ( شرح الشواهد للأعلم ) 1 / 250 على هامش الكتاب طبعة بولاق .
10)           الكتاب  2 / 62 – 66 . 
11)           جواهر القرآن للباقولي 2 / 741  . 
12)           معاني القرآن للفراء 1 / 105 – 106  .    
13)           الكشاف 1 / 623 .       
14)           معاني القرآن للفراء 1 / 107، وإعراب القرآن للنحاس 1 /  405 والدر المصون للسمين الحلبي 2 / 462 .          
15)           معاني القرآن للفراء 1 / 107 .           
16)           معاني القرآن للفراء 1 / 107  .              
17)           مشكل إعراب القرآن 1 / 213    .              
18)            البحر المحيط لأبي حيان 3 / 412 .                  
19)           البيتان من الكامل  وقد مر تخريجهما وبيان الشاهد فيهما .                      
20)           يعني ابن عطية .                           
21)           المحرر الوجيز 2 / 159 .                                  
22)             شرح الكافية للرضي 2 / 342 ، شرح الأشموني على الألفية 3 / 101، وهمع الهوامع للسيوطي 3 / 154 .                                        
23)           شرح الكافية للرضي 2 / 342 ، ومعه أيضاً شرح الأشموني 3 / 101 ، وهمع الهوامع 3 / 154 .                                        
24)           البيت من المتقارب وقد مر تخريجه وبيان الشاهد فيه .                                                                        
25)           الدر المصون 2 / 462 .      
26)           أي سيبويه ،  الكتاب 2 / 62 وقد نقلت طرفاً من كلامه سابقاً  .                                      
27)           الإغفال 2 / 36 .                                     
28)           من الآية 61 من سورة التوبة .
29)            معاني القرآن للفراء 1 / 107 ، ومعه  أيضاً إعراب القرآن للنحاس 1 / 505 ، ومشكل إعراب القرآن 1 / 212 .  
30)           مشكل إعراب القرآن 1 / 212 ، والآية الكريمة رقم 20 من سورة الأنبياء عليهم السلام .    
31)           جامع البيان في تأويل القرآن للطبري 9 / 397 .   
32)             الدر المصون 2 / 462 ، وقد قال أبو البقاء قريباً من ذلك كما سبق .          
33)            إعراب القرآن للنحاس 1 / 505 ؛ ومعه  أيضاً مشكل إعراب القرآن 1 / 212 ، والبحر المحيط 3 / 394 ، والدر المصون 2 / 462 .       
34)           التبيان 1 / 202 .         
35)           هذا المذهب و اللذان قبله في  معاني القرآن وإعرابه للزجاج  2 / 105 ، وإعراب القرآن للنحاس 1 / 505 ، والبيان في غريب إعراب القرآن للأنباري 1 / 276 ، والإنصاف في مسائل الخلاف – المسألة 65 { 2 / 471}  ، والبحر المحيط لأبي حيان 3 / 394 ، والإتقان في علوم القرآن للسيوطي 2 / 362   .         
36)           التبيان 1 / 202 .           
37)           الكتاب لسيبويه 2 / 381 ، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج 2 / 5 ، والخصائص لابن جني 2 / 19 ، والإنصاف في مسائل الخلاف  2 / 463 ، واللباب في علل البناء والإعراب 1 / 432 ، وشرح المفصل لابن يعيش 2 / 12 ، وشرح الكافية للرضي 2 / 355 ، وشرح الأشموني على الألفية 3 / 170 ، وهمع الهوامع 3 / 221 .               
38)           اللباب في علل البناء والإعراب 1 / 432  .   
39)           من الآية 1 من سورة النساء .        
40)           قرأ حمزة "والأرحامِ" بالجر ، وقرأ الباقون بالنصب ، ونقل عن عبد الله بن زيد " والأرحامُ" ، يراجع  السبعة في القراءات لابن مجاهد صـ 226 ، والمحتسب لابن جني 1 / 178 .       
41)           سورة الحجر الآية 20 .             
42)           البيت من البسيط وهو بلا نسبة في الكتاب لسيبويه 2 / 383 ، والأصول لابن السراج 2 / 119 ، واللمع لابن جني صـ 97 ، وشرح المفصل لابن يعيش 2 / 13 ، وشرح التسهيل لابن مالك 3 / 376 ، وشرح الكافية للرضي 2 / 355 ، والبحر المحيط لأبي حيان 2 / 133 ، وتوضيح المقاصد للمرادي 2 / 1026 ، وشرح ابن عقيل على الألفية 3 / 240 ، وشرح الأشموني 3 / 170 ، وهمع الهوامع للسيوطي 3 / 221.
 والشاهد في قوله " فما بك والأيام " فإنه عطف " الأيام " على الضمير المجرور في " بك " من غير إعادة الجار ، وهو جائز عند الكوفيين ومن تابعهم ، وعده البصريون ضرورة .     
43)             البيت من الوافر ، وهو لعباس بن مرداس  في ديوانه صـ 162 وفيه " أشد " مكان " أكر " ، وهو من شواهد شرح التسهيل لابن مالك 3 / 377 ،  شرح الكافية الشافية لابن مالك أيضاً 2/ 49 ، والبحر المحيط 1 / 133 ، ومجمع الأمثال للميداني 2 / 87 ، ونهاية الأرب للنويري صـ 209 .
 والشاهد في البيت عطف " سواها على الضمير المجرور قبله بدون إعادة الجار على مذهب الكوفيين ، وهو عند البصريين ضرورة .                
44)           الإنصاف في مسائل الخلاف – المسألة 65 { 2 / 463 – 464 } .
45)           يعني ما احتجوا به من أنَّ الضمير كالتنوين ، وكما لا يعطف على التنوين كذلك الضمير ، وعدم صلاحية ضمير الجر لحلوله محل المعطوف عليه . 
46)           شرح التسهيل لابن مالك 3 / 275 – 276 . 
47)           البحر المحيط لأبي حيان 2 / 133 .
48)            من الآية 161 من سورة النساء ، ويراجع  البحر المحيط 3 / 412 ، ويراجع  أيضاً مفاتيح الغيب للفخر الرازي 1 / 1590، وروح المعاني للألوسي 6 / 16 .                
49)           أي بتقدير : يؤمنون بما أنزل إليك ويؤمنون بالملائكة ، أو .. ويؤمنون بدين المسلمين ؛ كما سبق .